الجمعة، 6 يونيو 2014

"أطفال قد الحياة" حدوتة إيجابية

"أقسم بالله العظيم أنا (طفل قدّ الحياة) أن أتمسك بحقي في حياة سوية وآمنة، وأسعى لتحقيق أحلامي كاملة، متحلياً بالأخلاق الفاضلة، رافعاً علم بلدي مصر عالياً"..
بكل حماس يخرج هذا القسم من بين شفتي مجموعة من الأطفال ليتردد صداه في محيط دار الإقامة التابعة لمشروع (أطفال قدّ الحياة) لرعاية أطفال الشوارع وتأهيلهم.
وتعد ظاهرة أطفال الشوارع من الظواهر الخطيرة التي تهدد المجتمع المصري؛ لما يترتب على وجودها من ممارسات سلبية، أكثرها انتشاراً: ما تقوم به العصابات الإجرامية من استخدام هؤلاء الأطفال لتحقيق مصالحها بدفعهم إلى التسول أو السرقة، وهنا تظهر ضرورة المشاركة المجتمعية في المشاريع والمبادرات الإيجابية التي تعمل على حل هذه المشكلة، وأبرزها مشروع (أطفال قدّ الحياة) التابع لجمعية رسالة للأعمال الخيرية.
تبدأ الخطوة الأولى في العلاقة بين المشروع وأطفال الشوارع عن طريق حملات الجذب التي تذهب إليهم في أماكن تجمعاتهم، مصحوبة بأشياء محببة إلى الأطفال كالوجبات الغذائية والألعاب؛ بهدف كسب ثقتهم، فيلبوا دعوة المتطوعين لهم إلى زيارة أحد مراكز الاستقبال القريبة من محيط انتشارهم، والبالغ عددها عشرة مراكز موزعة على ست محافظات.
مع وصول الطفل إلى مركز الاستقبال تملأ استمارة بيانات أولية تهدف إلى معرفة السبب الذي دفع به إلى الشارع، فبعض الأطفال تكون هناك فرصة جيدة لإعادتهم إلى منازلهم، بعد علاج المشكلة التي أدت لتحولهم إلى أطفال شوارع.
وتؤدي مراكز الاستقبال دور إيجابي مؤثر من خلال توعية الأطفال المستضافين بأضرار السلوكيات الخاطئة التي يمارسونها في الشارع وتأثيرها عليهم في المستقبل، وإخراجهم من بيئة الشارع السلبية بعدة طرق، مثل: اصطحابهم في رحلات ترفيهية، أو إلحاقهم بأحد النوادي الرياضية.
وعندما تطول فترة تردد الطفل على مركز الاستقبال، ولا تنجح محاولات إعادته إلى المنزل، حينها يُحوَّل إلى واحدة من دور الإقامة الدائمة الثلاثة الموجودة في محافظتي القاهرة والجيزة، وفيها يعالج الطفل نفسياً من التجارب المؤذية التي تعرض لها في الشارع، وأيضاً يعاد إلحاقه بالتعليم.
ولا يكتفي مشروع (أطفال قدّ الحياة) بإيواء الأطفال بشكل تقليدي، ولكن يبتكر طرقاً مبتكرة لبث الروح الإيجابية فيهم، أقربها إلى نفوسهم: الورش الفنية التي يقوم بتنفيذها مسئولو اللجنة الفنية الذين يختصون بتنمية الحس الفني، وزيادة قدرات الأطفال الإبداعية التي تظهر في أعمالهم المختلفة، فتلقى إعجاب زوار المعارض المقامة لعرض المشغولات الفنية المنفذة بأيدي أطفال الشوارع الذي أصبحوا (أطفال قدّ الحياة).
ومن يشاهد متطوعي مشروع (أطفال قدّ الحياة) سيرى نماذج حية رائعة للإيجابية في المجتمع المصري؛ لكونهم الضلع الأكثر أهمية وفعالية في المشروع، ويخضع هؤلاء المتطوعون للتدريب عن طريق دورات متخصصة في كيفية التعامل مع طفل الشارع؛ ليتمكنوا من استيعابه بشكل صحيح، ويساهم المتطوعون بشكل فعال في تجفيف المنابع المسببة لانتشار أطفال الشوارع المتزايد، حيث إنهم لا يكتفون فقط بدورهم في التعامل مع الأطفال، بل يقومون بدور آخر بالغ الأهمية، وهو توعية المجتمع المصري بظاهرة أطفال الشوارع وتصحيح نظرة المجتمع إليهم، من مجرمين يستحقون العقاب إلى ضحايا ظروف قاسية يستحقون مد يد العون لهم.
ومثلما كانت بداية مشروع (أطفال قدّ الحياة) بمثابة الشمعة التي أنارت وسط الظلام الدامس، فتكاثرت الشموع لتصبح كتلة ضوئية ينتشر شعاعها في شوارع أكثر من مدينة مصرية، سيأتي اليوم الذي تتحول فيه الطاقة الإيجابية لهذا المشروع وغيره من المشاريع العاملة على القضية نفسها إلى شمس ساطعة تشرق على مصرنا الحبيبة بجعلها خالية من أطفال الشوارع.

الأحد، 23 مارس 2014

مصر التي في خاطري ليبرالية

بداية: ماذا يحدث إذا غابت الليبرالية؟!
بغياب الليبرالية عن المجتمع تتأثر الحرية تأثرًا سلبيًّا، فعلى سبيل المثال يحدث فساد لأخلاق الإنسان، بسيطرة لغة النفاق على الأشخاص، فتتحول الوجوه الآدمية إلى وجوه كرتونية، تبطن خلاف ما تظهر؛ لشعورها بالخوف من التعبير عن آرائهم الحقيقية؛ وذلك بتأثير القيود المتعددة التي تكِّبل العقول والأفكار والقدرات.
وعلى المستوى المجتمعي يفقد المجتمع روح المبادرات؛ وذلك لأنه عندما تسيطر لغة القهر على المشهد العام تنخفض تلقائيًّا همة الأفراد لإصلاح وتطوير مجتمعهم، فتكون النتيجة في النهاية استنزاف قدرات المواطنين وانخفاض إنتاجية المجتمع. ويؤدي غياب الحرية عن المجتمع إلى الهروب عن طريقين: إما بالهروب إلى الخارج باللجوء إلى تكوين الجماعات السرية ذات الاتجاهات الفكرية المنحرفة والشعور بالحرية داخلها، أو بالهروب إلى الداخل بنفاق الحكومة المستبدة والتملق لها.
وفي الدول غير الليبرالية تنتشر العديد من السلطات المستبدة التي تحل بدون وجه حق محل السلطة الفردية، سواء كانت هذه السلطات تتمثل في حكومة متسلطة تقيد الحريات وتمنع الناس عن حقوقهم، أو رجال دين يفرضون أوامرهم الدينية بطرق غير أخلاقية، يتعدون بها على الحريات الشخصية، وحتى في أضيق النطاقات وهو نطاق الأسرة نجد غياب القيم الليبرالية وظهور السلطة الأبوية المتعدية، ولذلك إذا أردت مجتمعًا آمنًا أعطِه حريته.
الليبرالية ليست دينًا
للأسف في مجتمعنا المصري تكثر الشائعات التي تشوه الليبرالية وتظهرها على غير حقيقتها بكونها تعارض الدين الإسلامي، وأنه ليس أمامك سوى خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تكون مسلمًا مؤيدًا لمشروع الإسلام السياسي، وفق منطق لا تناقش ولا تجادل، وإما أن تكون ليبراليًّا أو أي اتجاه آخر، وبذلك يكون اسمك قد أدرج في قائمة الخارجين عن الإسلام المحاربين له!
ومن الطرائف التي رأيتها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي نشر صورة لأحد رموز الليبرالية المصرية وهو يصلي، باعتبار أن ذلك من العجائب، وعندما رأيت التعليقات على الصورة تعجبت من كمية الخرافات الموجودة في عقول الناس عن الليبراليين والتي يسوق لها مشايخ الفضائيات الإسلامية المتشددة، وأبرزهم طبيب بشري نصّب نفسه متحدثًا بالدين عندما قال بصريح العبارة: "الليبرالية يعني أمك تقلع الحجاب"!!، مع الأخذ في الاعتبار أن المسائل الدينية هي أمور شخصية بحتة، ليس لأحد من الأشخاص سلطة تبرر له التدخل فيها.
ونستشف مما سبق تفشي إشكالية خطيرة في المجتمع المصري، وهي الخلط بين السلوك الشخصي والفكر السياسي، بمعنى أنه عندما يتم توجيه نقد للفكر الليبرالي يكون نقدًا لسلوك الأشخاص المنتمين له وليس نقدًا لأفكارهم السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، ولحل هذه الإشكالية يجب علينا أن نعمل على نقل الشعب المصري من التواجد العقيم في عالم الأشخاص الضيّق إلى عالم الأفكار الرحب، لأن التواجد في عالم الأشخاص ليس سوى دلالة على الإفلاس الفكري وعدم الوصول لأي جديد يساهم في تغيير الواقع.
والليبرالية في جوهرها هي نهج فكري على مستويات متعددة من سياسة واقتصاد وغيرهما من المجالات، وليست عقيدة فتتدخل بذلك في الانتماء الديني للأفراد أو تتعارض معه، وليس هناك ثمة تناقض بين أن تكون ليبراليًّا مستنيرًا وفي الوقت نفسه تكون متدينًا.
ومن الأفكار التي أقترحها لحل إشكالية تشويه الليبرالية في المجتمع المصري تعاون منظمات المجتمع المدني الليبرالية مع وزارة الأوقاف المصرية، من خلال إقامة دورات في ماهية الليبرالية لخطباء المساجد وعلماء الدين، لأن الكثير منهم يكون لديه تصور خاطئ عن مفهوم الليبرالية، قد استمده من بعض كتابات رجال الدين المسيسين، ويساهم في نشر هذا التصور المغلوط من خلال خطابه الديني مع عامة الناس الذين لا يكون لديهم غطاء معرفي يجعلهم قادرين على التفريق بين الصحيح والخاطئ، فتنتشر بذلك صورة مشوهة للفكر الليبرالي.
الروشتة الليبرالية للمشكلات المصرية
يخطئ من يقوم بعملية استنساخ تقليدية للحلول الليبرالية الغربية، ويحاول تفعيلها في المجتمع المصري؛ وذلك لاختلاف البيئات من مجتمع إلى آخر، وما يصلح في الغرب قد لا يصلح في الشرق، والعكس صحيح، ولذلك عندما حاولت وضع الحلول لمشاكل المجتمع المصري من وجهة نظر ليبرالية لم أضع في حسباني تفاصيل الليبرالية الغربية؛ لإيماني أن العلاج الصحيح يكون من الفهم العميق للمجتمع المراد علاجه.
تسميم العقول في الصغر يرهقنا في الكبر
كنت أقف ذات يوم في طابور للعيش وإذ فجأة ينادي أحد الأطفال صديقه بقوله "أنت يا واد يا مسيحي".. الجملة السابقة أثارت استفزازي، فسألته: هل أنت مسلم؟ فرد عليّ بالإيجاب، فقلت له: هل تعتقد بأنك أفضل منه؟ فكانت الإجابة بنعم!، ليست المسألة موقفًا عابرًا ولكن المسألة أعمق من ذلك بكثير. إن العملية التربوية في مصر بتعدد نطاقاتها، من البيت إلى المدرسة إلى الشارع، تساعد على تنمية النزعة العنصرية في نفوس الأطفال، ولذلك فليس هناك داعٍ للتعجب عندما نرى الكبار ينبذون الآخر ولا يتعايشون معه!
ومن المشاهد المعتادة في جميع مدارس مصر خروج الطلبة المسيحيين عندما يحين ميعاد حصة الدين، وبقاء الطلبة المسلمين ليقوم مدرس الدين بتدريس بعض المعلومات لهم، والتي في الغالب تكون بعيدة عن مشاكل الواقع وكيفية التعامل معه، ولكن المعضلة ليست في ذلك وإنما في خروج الطلبة المسيحيين بشكل يرسّخ الأفكار الملوثة من أنهم كفار ومصيرهم إلى النار، وهذه هي الحقيقة التي نهرب من مواجهتها.. نعم نحن مجتمع يساعد على العنصرية، فالاعتراف بالمرض بداية طريق العلاج!
ما هو الضرر الذي سيقع إذا ما تم دمج حصة الدين الإسلامي والمسيحي في حصة تدرّس فيها قيم ومبادئ أخلاقية مثل التسامح والتعايش مع الآخر والأساليب المثلى للحوار، وبالنسبة للعقيدة الدينية فهي حرية متروكة لعائلة كل طفل، فنكون بذلك أفسحنا المجال أمام حرية تعدد المذاهب والأديان، ونجتمع جميعًا تحت ظلال الإنسانية، ما الذي يمنع أن تكون هناك تدريبات عملية في هذه الحصة لتفعيل المبادئ والقيم الليبرالية والتي تتسع لتشمل الجميع، وعلى سبيل التمني فأنا أتمنى أن يحظى الجيل القادم بهذا التغيير لكي نوقف طوفان العنصرية الجارف!
المساواة أسلوب حياة!
اخترت المساواة لأني أرى أن الكثير من المشاكل الظاهرية التي نعاني منها في المجتمع المصري جذورها تنتهي إلى هذه النقطة، كثير من الطبقات المجتمعية تعاني من عدم المساواة، كثير من المؤسسات الحكومية تنتشر فيها المحسوبية والمحاباة، للأسف نخر التمييز في عظام المجتمع المصري بشكل أفقده قدرته على التوازن، فأصبحنا كما نراه الآن مجتمعًا مختلاً!
جرب على سبيل المثال أن تفتح حوارًا عن ظاهرة التحرش في وسيلة مواصلات عامة ستجد عددًا من التبريرات اللانهائية، وستجد بعض التبريرات في غاية القذارة، مثل أن الأنثى تفرح بالتحرش، لكن تعالَ معي عزيزي القارئ لنحاول استقصاء أصل المشكلة والذي يتمثل في النظرة إلى المرأة على أنها إنسان من الدرجة الثانية، وتتحول تلك النظرة إلى أشكال عملية للاستبداد بالمرأة، سواء من قبل أصحاب العمل في حصولها على أجور منخفضة عن الذكور، أو من قبل الزوج الذي يعتدي عليها بالضرب أو الإهانات اللفظية ليل نهار، أو من قبل المجتمع الظالم الذي تشيع فيه النظرة إلى المرأة على أنها أداة استمتاع جنسي.
هناك شكل آخر من أشكال التمييز وهو التمييز الذي يمارس على أساس المظهر أو الوضع الاجتماعي، فمن المعروف في مصر أن الفرد يتم تسهيل معاملاته وحياته بشكل عام بناءً على مظهره وعلاقاته، ولذلك ينتشر لدينا مصطلح "ابن ناس" والمقصود به هنا الشخص من بيئة مادية مرتفعة، وكأن البقية من أبناء المجتمع لا يستحقون الحياة!، كثير من الطلبة المتقدمين إلى الكليات الحربية وكليات الشرطة يتم رفضهم لكونهم فقراء ليس أكثر.
 ولذلك فالمجتمع الليبرالي الذي تسود فيه قيمة المساواة لا مكان فيه لأي نوع من أنواع التمييز، حيث لا توجد فروق بين الرجل والمرأة، أو بين الغني والفقير، وبحكم القانون لابد أن تفعّل قوانين تحمي المجتمع من التمييز، وفي نفس الوقت يتم تجهيز المجتمع للعيش بقيمة المساواة، من خلال رفع الوعي بقيمة الإنسان لكونه إنسانًا، ونشر فكرة الاحترام المتبادل للإنسانية وليس للمادية، وأن قيمة الإنسان الحقيقية في أفكاره!
حتى تكتمل الصورة
هذه نقاط سريعة لكي تنتقل الليبرالية من الجانب التنظيري إلى الجانب العملي:
* الليبرالي الحق لا يعرف المعايير المزدوجة، بمعنى أنه ينبغي علينا كليبراليين أن نكون ثابتين على مبادئنا وقيمنا الليبرالية مع الجميع، بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معهم.
* إذا كان هناك انتشار لأفكار الإسلام السياسي التي تشوه الليبرالية فالحل لن يكون في الجلوس على المكاتب ومهاجمة هذه الأفكار، لابد من تشكيل فرق عمل ميدانية على الأرض، تقوم بنشر الأفكار والمضامين الحقيقية لليبرالية، المواجهة هي الحل!
* من أهم مفاتيح تفعيل الليبرالية هو التفاعل مع احتياجات الناس وإيصال رسالة هامة، وهي أن حقوقهم هي ليست أفضالاً تتفضل عليهم بها الدولة، وإنما هي أمور بديهية لابد لهم من العيش بها، ومساعدتهم في ذلك الاتجاه عن طريق توفير المساعدة القانونية لهم، من أجل الحصول على هذه الحقوق.
*أخيرًا وليس آخرًا اليأس خيانة والأمل وطن!

الجمعة، 14 فبراير 2014

لقمة عيش مسمومة



"أيه ممكن تدفعيه قصاد ده يا عسل أصل مفيش حاجة ببلاش دلوقت"، الجملة السابقة كانت هي الرد على إحدى العاملات في مصنع بمنطقة برج العرب بالإسكندرية حين تقدمت إلى مديرها بطلب إجازة لظروف مرض ابنها الصغير، وعندما لم تستجب العاملة كان النتيجة أنها اضطرت إلى ترك العمل، هذا الموقف وغيره من المواقف المتكررة، يعكس مدى معاناة المرأة العاملة مع التحرش الجنسي في أماكن العمل.  
فمع طلوع شمس كل يوم تتوجه 6 مليون و400 ألف امرأة مصرية إلى مقار عملهن المختلفة، يتعرض 68% منهن إلى التحرش الجنسي في أماكن العمل، وتتنوع أشكال التحرش بدايةً من التحرش اللفظي مروراً بمحاولات اللمس والتقبيل بالإجبار، وصولاً إلى القيام بتمزيق الملابس وحوادث الاغتصاب، وذلك وفقاً لدراسة أكاديمية عن التحرش الجنسي بالمرأة العاملة، قام بها باحثان هما الدكتور طريف شوقي أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة، والدكتور محمد هريدي أستاذ علم النفس المساعد بجامعة المنوفية.
 يزداد الوضع مأساوية لكون الكثيرات من اللاتي يتعرضن للتحرش لا يعد العمل بالنسبة لهن أمر اختياري، فنظراً للظروف الاقتصادية السيئة في مصر، تخرج الكثيرات من النساء إلى سوق العمل تحت ضغط الفقر والحاجة إلى كفاف العيش، وبعض هؤلاء النساء العاملات هن بمثابة المعيل الوحيد لأسرهن، مما يترتب عليه وجود التزامات مادية ضرورية لا بد للمرأة في هذه الحالة من أن توفي بها.
 وتبلغ نسبة الأسر المصرية التي تعولها امرأة 34% وفقاً لدراسة قام بها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وبعض هؤلاء الأسر يكون الزوج على قيد الحياة ولكنه غير راغب بالعمل ولا يتحمل مسئولية الأسرة، مما يدفع المرأة إلى النزول للعمل بضغط من الزوج المتكاسل.
والمثير للسخط أنه في كثير من الأحيان عندما تتعرض المرأة للتحرش وتقرر ترك العمل كحل لمعاناتها، تواجه في العمل الجديد نفس المعاناة مع اختلاف التفاصيل، فقد تعرضت إحدى العاملات للتحرش باللمس من قبل مدير المصنع مما أضطرها إلى تغيير عملها، وفي عملها الجديد تعرضت أيضاً للتحرش بالملاحقة المتكررة من رئيس العمال، مما جعلها تعيش في حالة نفسية يرثى لها.
وتجد المرأة العاملة نفسها في موضع ضعف في مواجهة هذه التحرشات المستمرة، وذلك لعدم وجود حماية قانونية أو نقابية فأغلب النساء العاملات يكن غير مثبتات في عملهن، وكثير منهن لا توجد عقود تعطي لهن الحق في مقاضاة صاحب العمل إذا ما قام بإجراء تعسفي ضدهن في حالة عدم الاستجابة للتحرش، وإذا ما تم اللجوء إلى الجهات الأمنية لا يؤخذ الأمر بالجدية الكافية، وفي نفس الوقت قانون التحرش الجنسي لا ينص على مواد تجرم التحرش الجنسي في أماكن العمل.
وتتحدث إحدى العاملات عما جرى لها حينما رفضت محاولة تحرش من رئيسها في العمل فتقول: "رئيسي ده لما لاقاني رفضت أروح معاه وبقيت أحترس منه بدأ يضيق عليا وبعدين خصم لي نص علاوة وحرمان نص علاوة ده يعني خراب بيوت لأن الحوافز بتروح والمرتب بيقل"، ولك أن تتصور الحالة الاقتصادية لهذه العاملة حين يقل مرتبها الذي هو في الأصل أقل من القليل.
 وقد يتعدى رد فعل المتحرش إلى الفصل مثلما حدث لزميلة لها حينما اعترضت على قيام مشرف العمال، بالتحرش بها وقامت بفضحه وتقديم شكوى ضده، فما كان منه إلا أن قام بطردها وتعليق ورقة بمنعها من دخول المصنع مرة أخرى، وبذلك يكون المتحرش قد أوصل رسالة لبقية العاملات بأنه ليس أمامكن سوى خيارين أما قبول التحرش أو الفصل من العمل !
و ينظر المجتمع إلى بعض أنواع الوظائف التي تقوم بها النساء نظرة دونية مريضة يستمد منها الحق في التحرش بالنساء العاملات فيها، وفي مقدمة هذه الوظائف التمريض، ففي دراسة أجريت مؤخراً قام بها الباحث محمد سعيد الدكروري والذي يعمل كمعيد في قسم إدارة الأعمال بكلية التجارة جامعة المنصورة، توصل من خلالها إلى أن 80 % من الممرضات في المستشفى الجامعي بجامعة المنصورة يتعرضن للتحرش الجنسي أثناء عملهن بالمستشفى، وكان الهدف من الدراسة هو قياس العلاقة بين التحرش الجنسي والأداء الوظيفي وكانت النتيجة بالطبع تأثير التحرش سلبياً على أداء المرأة الوظيفي، ولكن المفاجأة لم تكن في النسبة التي توصل إليها الباحث بقدر ما كانت في رد فعل اللجنة المختصة بمناقشة الدراسة التي قدمها الباحث لنيل درجة الماجستير والمتمثل في إلغاء الرسالة، وهو الحل المعتاد في مواجهة الحقائق، باللجوء إلى دفن الرأس في الرمال، حتى ولو كان تحت هذه الرمال براكين ستتفجر في وجه المجتمع أجمع !
وبما إننا نعيش في المجتمع المصري حالة من السلبية بشكل عام وفي مواجهة ظاهرة التحرش بشكل خاص، أمتد أثرها إلى طريقة التعامل مع التحرش الجنسي في محيط العمل من قبل المحيطين بضحية التحرش، ففي بعض الأحيان يقوم الزملاء الذكور في العمل بمشاركة المدير التحرش بنفس الفتاة التي يتحرش بها من قبيل المجاملة، أو الضحك أثناء تحرشه بها، وفي أفضل الأحوال لا يبدي أحداً منهم رد فعل تجاه ما يفعل المدير، وذلك إتباعاً لقاعدة "عيش نملة تاكل سكر".
والتحرش الجنسي في العمل لا يكون بدافع الغريزة الجنسية، بقدر ما يكون بدافع الرغبة في إثبات الرجولة بشكل خاطئ عن طريق السيطرة المريضة على الأنثى وممارسة السلطة بالاعتداء عليها، بدليل أن النسبة الغالبة لمن مارسوا التحرش كانوا متزوجين، وهذا يرجع بشكل أساسي إلى فكرة نسبة كبيرة من المجتمع المصري المشوهة عن المرأة في كونها كيان منتهك وجد من أجل أن يمارس عليها الرجل سلطاته الاستبدادية ويشبع بها رغباته الجنسية، ولذلك لا بد من تغيير الفكر كي يتوقف الفعل.
وتأتي عواقب التحرش بالمرأة العاملة في غاية الخطورة فمن المفترض أن نسبة غير قليلة من النساء العاملات يتطلب منهن القيام بتربية أبنائهن، وعليك أن تتخيل أي نفسية هذه التي ستقابل بها المرأة التي تعرضت للتحرش أبنائها وتقوم بدورها التربوي تجاههم، وكيف سيكون شكل تعاملها معهم، وهل ستنجح في كتمان غضبها وعصبيتها عنهم أم لا، وبالإضافة لذلك فغالباً ما تعاني المرأة التي تعرضت للتحرش من أعراض نفسجسمية تتمثل في: الشعور الدائم بالإرهاق وحدوث نوبات صداع متكررة، ورؤية كوابيس مزعجة، وقد يصل الأمر أحياناً إلى التفكير في الانتحار. 
ولا يبقى سوى صرخات
كيف يمكن للبشر أن يحملوا كل هذا الشر، لماذا لا يساءل أي من هؤلاء على ما اقترفوه؟ هؤلاء الرجال سيستمرون أحرارا في عملهم يبحثون عن ضحيتهم التالية ولا يمكنني القيام بأي شيء حيال هذا.
لقد تربيت على أن المحسن يثاب والمسيء يعاقب، ولكني اكتشفت كذب هذه المقولة عندما واجهت الحياة، اكتشفت أن الأمر هو العكس وأشعر بالخيانة، أشعر بالغضب.. أشعر بالغضب.
الإمضاء
ضحية تحرش